يكتب أسامة أبو زيد عن حربٍ لا تُدار بالسلاح وحده، بل بالموارد والأسواق والحرمان الممنهج، حيث تتحول المجاعة والذهب والتهريب إلى وقودٍ يومي لصراعٍ يزداد تعقيدًا.
يشير المقال ميدل إيست آي الذي يتابع تحولات الصراع السوداني من زاوية اقتصادية وسياسية متداخلة.
في الثامن من ديسمبر، سيطرت قوات الدعم السريع على أكبر حقل نفطي في السودان بمنطقة هجليج، ما أوقف الإنتاج في المنشأة الرئيسية التي تعالج صادرات جنوب السودان النفطية، والتي تشكّل المصدر شبه الوحيد لإيرادات جوبا. يقع الحقل في غرب كردفان قرب الحدود الجنوبية، وهي منطقة تجذب باستمرار صراعات السيطرة بين القوى المتناحرة. قبل ذلك، اتهمت القوات المسلحة السودانية قوات الدعم السريع بشن هجمات بطائرات مسيّرة على الموقع، ما أدى إلى توقفات سابقة في الإنتاج.
بعد أيام قليلة، أدان متحدث الأمم المتحدة هجومًا استهدف شاحنة تابعة لبرنامج الغذاء العالمي في شمال كردفان أثناء نقل مساعدات للنازحين في دارفور. أسفر الهجوم عن مقتل ثمانية أشخاص وإصابة آخرين، وشكّل الاعتداء السادس من نوعه خلال عام واحد ضد موظفي البرنامج أو أصوله في السودان. تكشف هذه الوقائع حجم المخاطر التي تحيط بالعمل الإنساني، وهي مخاطر ترتبط مباشرة بالبنية السياسية والاقتصادية للحرب.
اقتصاد يموّل العنف ويصنع المجاعة
لا تمثّل هذه الهجمات حوادث معزولة، بل تعبّر عن منطق حربٍ يغذّي نفسه بنفسه. تسيطر الأطراف المسلحة على البنية التحتية المدِرّة للدخل، وفي الوقت ذاته تستخدم الحرمان الغذائي كسلاح لدفع السكان إلى النزوح وكسر أي مقاومة اجتماعية. بهذه الآلية، تعيد الحرب تشكيل موازين القوة عبر التحكم في الموارد والوصول الإنساني، وتخلق صراعًا مصممًا ليستمر ويتجاوز أي وقفٍ لإطلاق النار.
مع دخول الحرب عامها الرابع، تراجع الاهتمام الدولي، بينما يواجه أكثر من 12 مليون نازح أزمة غير مرئية تتمثل في تفكيك الاقتصاد السوداني بشكل منهجي. تتراجع قيمة الجنيه، ويتسارع التضخم، وتتحول الأسواق إلى ساحات نهب منظم. تفقد العملة أكثر من 233 في المئة من قيمتها منذ اندلاع القتال في أبريل 2023، ويتجاوز التضخم 113 في المئة بحلول منتصف 2025، ويواجه نحو 24.6 مليون شخص انعدامًا حادًا في الأمن الغذائي، وهو أعلى رقم مسجل عالميًا.
لا يمكن فهم الحرب السودانية عبر التحليل العسكري فقط؛ فالذهب والتهريب ونقاط التفتيش باتت أدوات نفوذ تتفوق على الدبلوماسية. تستبدل البنوك بالحواجز المسلحة، وتتحول البنية التحتية المنهارة إلى سوقٍ كابوسي تديره الفصائل. تخوض الأطراف حربًا نقدية حقيقية، حيث تستخدم التضخم والانهيار المالي كوسيلة للسيطرة.
السيطرة على الموارد وشبكات التهريب
تسرّع سياسات الحرب المتعمدة من وتيرة الانهيار الاقتصادي عبر عسكرة المال، وتخريب الزراعة، والاستيلاء على الموارد الأساسية مثل الذهب والصمغ العربي. تفرض الفصائل رسومًا غير رسمية، وتحتكر الوقود، وتخلق عملات محلية لتمويل عملياتها. تترك الأراضي الزراعية بورًا بعد تدمير مئات المنشآت الزراعية، وتتوقف معظم أنظمة الري في دارفور، ما يفاقم نقص الغذاء.
يتحول الذهب، ثالث أكبر احتياطي في أفريقيا، إلى المحرك المالي الرئيسي للحرب. يهرّب ما بين 50 و80 في المئة من الإنتاج سنويًا عبر دول الجوار، مولدًا مليارات الدولارات. تسيطر قوات الدعم السريع على معظم المناجم التقليدية في دارفور، بينما يوجّه متحالفون مع الجيش عائدات التعدين الرسمية نحو شراء السلاح. رغم تقارير أممية تربط الذهب المهرّب بالأسواق العالمية، يغيب أي ردع فعلي، ما يعكس تواطؤًا دوليًا ضمنيًا.
يمتد الأمر إلى الصمغ العربي، وهو سلعة عالمية أساسية، حيث تفرض قوات الدعم السريع إتاوات وتنهب المخازن وتحوّل مسارات التصدير. تدخل هذه السلع سلاسل التوريد العالمية دون تتبع، فتتكرر أنماط استخراج الموارد الاستعمارية: معاناة محلية وأرباح خارجية.
افتراس المساعدات والأفق المسدود
مع شلل التجارة الرسمية، تنشئ الفصائل اقتصاد افتراس قائمًا على نهب المساعدات وفرض ضرائب البقاء. تستولي على قوافل الإغاثة وتعيد بيعها بأسعار مرتفعة، وتغلق الطرق أمام المناطق الخارجة عن سيطرتها. يدفع النازحون رشى لعبور الحواجز، وتتحول الخدمات الصحية إلى سوق سوداء، حيث ترتفع أسعار الأدوية المنقذة للحياة أضعافًا مضاعفة.
يمزق الانهيار الاقتصادي النسيج الاجتماعي ويدفع بملايين اللاجئين إلى دول الجوار، ما يثقل كاهل الأنظمة الصحية الهشة هناك. في ظل هذا الواقع، لا يكفي وقف إطلاق النار وحده. يتطلب السلام تفكيك البنية المالية التي تغذي العنف، عبر عقوبات موجّهة، وتدقيق تدفقات الذهب، ودعم شبكات مدنية للغذاء، ومساءلة اقتصادية شاملة.
يخلص المقال إلى أن الحرب في السودان لن تنتهي باتفاقات شكلية، بل عندما يواجه العالم شبكات الاقتصاد الخفي التي تبقيها مشتعلة. تجاهل ذلك يعني المشاركة في صراع بلا نهاية.
https://www.middleeasteye.net/opinion/sudans-war-economy-how-hunger-gold-and-smuggling-routes-fuel-escalating-crisis

